حكم مبارك: ضربة جديدة لنظام العدالة في مصر
بيان صحفي
تلقت العدالة ضربة جديدة قاصمة، بحسب المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، في أعقاب الحكم الصادر اليوم من محكمة جنايات القاهرة برفض الدعوى ضد مبارك، وتبرئة وزير الداخلية السابق حبيب العادلي وستة من مساعديه، في إعادة محاكمتهم بتهمة قتل المئات من المتظاهرين في ثورة 25 يناير. ويمثل الحكم ترسيخًا إضافيًّا للإفلات من العقاب على الانتهاكات الجسيمة في حقوق الإنسان من جانب قوات الأمن، التي أُعفيت مرة أخرى من المسؤولية عن قتل وإصابة وتعذيب المتظاهرين.
في 2011، اضطرت النيابة إلى بدء التحقيق مع مبارك بعد مظاهرات حاشدة طالبت بمحاكمته، ونتج عن المحاكمة الأولى حكم بالإدانة في 2012 بالرغم من قصور التحقيقات والأدلة المقدمة من النيابة. وبدأت إعادة محاكمة الرئيس بالسابق مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي في أبريل 2013، بعد أن رفضت محكمة النقض حكم الإدانة الابتدائي الصادر في يونيو 2012 بتهمة التواطؤ في قتل المتظاهرين في يناير 2011. كما واجه ستة من مساعدي العادلي إعادة المحاكمة، بعد طعن النيابة على الحكم بتبرئتهم في المحاكمة الأولى. أما حكم اليوم، فقد وَجَدَ أنه لا وجهَ لإقامة الدعوى ضد مبارك مستخدمًا دفعًا شكليًّا، كان قد قدمه دفاع مبارك في المحاكمة الأولى وتم رفضه، ربما لتجنب إصدار حكم بالبراءة الموضوعية لمبارك، بالرغم من أن تبرئة العادلي ومساعديه الستة يعني اعترافًا ضمنيًّا ببراءة مبارك نفسه.
وقالت هدى نصر الله، الباحثة في المبادرة ومحامية بعض المجني عليهم في القضية: "إن هذا الحكم تعزيز إضافي لإفلات المؤسسة الأمنية من العقاب، كما أنه يعكس المناخ السياسي الحالي. فما حدث في أثناء المحاكمة، ودفوع المتهمين التي عرضها التلفزيون، وكيفية تبرئتهم لأنفسهم وتوجههم بالخطاب إلى الرأي العام، كان مؤشرًا واضحًا على اتجاه المحاكمة، وبخاصة بالنظر إلى منع محاميي الضحايا من حضور الجلسات".
كما يعزز الحكم بواعث القلق من نظام العدالة المصري، الانتقائي على نحو يثير الانزعاج، والذي يبدو أشد تصميمًا على تسوية حسابات سياسية ومعاقبة المعارضة بدلاً من إرساء العدل. فبينما يختص آلاف المعارضين السياسيين بالاتهام حتى الإدانة استنادًا إلى أدلة واهية، بدون جهد يذكر للتثبت من المسؤولية الجنائية الفردية، فإنه نادرًا ما تتم تحقيقات في إساءات الشرطة، ناهيك عن أن تؤدي إلى ملاحقات أو إدانات. ولم ينفرد مبارك والعادلي والمساعدون الستة بالإعفاء من مسؤولية قتل المتظاهرين، بل إن الكل قد حصل عليها، وقلة قليلة من رجال الشرطة قد تم اتهامها بقتل المتظاهرين في أثناء ثورة 25 يناير وفي السنوات التي تلت ذلك، وحصل عدد أقل من هؤلاء على أحكام مع وقف التنفيذ أو عقوبات مخففة. أما الباقون فقد تمت تبرئتهم، ولم يتلقَ عقوبات سوى شخصين.
في أثناء إعادة المحاكمة، تجاهلت السلطات القضائية مطالبة المنظمات الحقوقية وعائلات الضحايا بملاحقة من ارتكبوا أفعال القتل المباشرة والنظر في أدلة مادية إضافية. كما قام رئيس المحكمة، المستشار محمود الرشيدي ـ الذي تولى القضية بعد تنحي القاضي مصطفى حسن عبد الله ـ بمنع الضحايا وعائلاتهم ومحامييهم من حضور الجلسات ـ فحرمهم من الحق في معرفة الحقيقة بشأن ما حدث.
وإذن فليس ثَمَّ مفاجأة في حكم اليوم، المخيبِ للآمال، في ضوء إخفاق سلطات القضاء في التصدي للعيوب الجسيمة التي شابت المحاكمة الأولى. لقد اتسمت الإجراءات الأولى بأوجه قصور تتراوح من قصور تحقيقات النيابة العامة، إلى عدم التفات المحكمة إلى طلبات محاميي الضحايا بالنظر في أدلة جديدة، وحتى قرار القاضي بتجاهل أقوال ما يزيد على ألف شاهد، وأدلة المواد المسموعة والمرئية التي تبرهن على تورط الشرطة في وقائع القتل. وقد زعمت المحكمة، وهي تنطق بالحكم، أن: "أوراق القضية وأحرازها لا تحتوي على أدلة تطمئِن إليها المحكمة وتثبت أن الجناة الأصليين من أفراد وضباط الشرطة"، ومن ثم فقد أدانت مبارك والعادلي وحدهما لإخفاقهما في منع إراقة الدماء.
في ذلك الوقت ألقت النيابة العامة باللوم في ذلك الحكم على انعدام التعاون من أجهزة الأمن الوطنية، لكنها في نفس الوقت لم تتخذ أية خطوات لمحاسبة تلك الأجهزة على عرقلة التحقيقات أو حجب المعلومات.
وفي هذه المرة تم اتخاذ بعض الخطوات لتلافي أوجه القصور التي ظهرت في المحاكمة الأولى، لكنها لم تكفِ لضمان الانتهاء إلى حكم عادل. وتشمل بعض تلك الخطوات قبول أدلة جديدة في إعادة المحاكمة استنادًا إلى تقرير لجنة تقصي الحقائق التي تشكلت في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي للتحقيق في الأحداث السياسية بين 2011 وانتخابه في 2012. وعلاوة على هذا فقد استمعت المحكمة إلى شهادات إضافية في جلسات مغلقة، أدلى بها عدد من كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين، وبينهم رئيس الأركان السابق سامي عنان، والعضو السابق بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة حسن الرويني، ومدير المخابرات السابق مراد موافي، والقائد السابق للشرطة العسكرية حمدي بدين.
إن أحكام البراءة هذه، تفضح العيوب الجسيمة في قانون الإجراءات الجنائية المصري، إذ تكل مهمة جمع الأدلة إلى الشرطة، حتى في قضايا انتهاكاتها المزعومة، وتسمح لها بالعبث بالأدلة أو حجبها للإفلات من المحاسبة. وبدون إنشاء هيئات مستقلة للتحقيق في قضايا وحشيةِ الشرطةِ فإن تحقيق العدالة يكون من المستحيلات.
وقد دأبت المحاكم على تطبيق معايير مزدوجة في إثبات الجرم، تعتمد على كون المتهمين من مسؤولي إنفاذ القانون أو من المواطنين العاديين. فعلى سبيل المثال، في المحاكمة التي يعرفها الإعلام بقضية "مطاي"، أصدر القاضي 37 حكمًا بالإعدام، و491 حكمًا بالسجن المؤبد في تهمة قتل ضابط شرطة واحد، في يوم 14 من أغسطس 2013، متعللاً بأن توافر النية الإجرامية لقتل رجال الشرطة والتواجد بمسرح الجريمة، هما دليلان كافيان للإدانة بالقتل أو الشروع في القتل. إلا أن المنطق نفسه لم ينطبق قط في محاكمات رجال الشرطة المتهمين بقتل المتظاهرين في أثناء ثورة 25 يناير. فقد دأبت المحاكم على تبرئة الضباط المتواجدين بمسارح قتل المتظاهرين، مستشهدة بعدم كفاية الأدلة التي تربط بين الضباط الأفراد ومقتل المتظاهرين، أو متعللة بالدفاع عن النفس.
ووفق الإحصائيات الرسمية، فقد تم قتل نحو 840 متظاهرًا وإصابة أكثر من 6000 في أثناء الـ18 يومًا من المظاهرات في يناير 2011 التي أدت إلى تنحي مبارك في 11 فبراير 2011.
إن الإفلات من العقاب على إساءة استعمال السلطة والانتهاكات الحقوقية الجسيمة، ومنها قتل أكثر من ألف متظاهر في أثناء الأحداث التي تلاحقت بعد عزل محمد مرسي من منصبه في يوليو 2013، قد أكسبت الجهاز الأمني ورموز نظام مبارك المزيد من الجرأة، فعلى سبيل المثال في جلسات إعادة المحاكمة، طلبت هيئة الدفاع عن العدالة ضم أشرطة الفيديو التي تصور فض الاعتصامات المؤيدة لمرسي في أغسطس 2013 إلى أحراز القضية كدليل على أن قوات الأمن تصرفت في حدود القانون في أثناء احتجاجات يناير 2011.
ومع استمرار نظام العدالة في خذلان ضحايا الانتهاكات الحقوقية وحماية أجهزة الأمن، يتضح أنه بدون إرادة سياسية لإجراء الإصلاحات المؤسساتية والقانونية اللازمة، سيستمر مرتكبو تلك الجرائم في الفرار من العقاب على ما ارتكبوه من انتهاكات.